فصل: ذكرقصد ابن سنكا البصرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ملك نور الدين صافيثا وعريمة:

في هذه السنة جمع نور الدين العساكر، فسار إليه أخوه قطب الدين من الموصل وغيره، فاجتمعوا على حمص، فدخل نور الدين بالعساكر بلاد الفرنج، فاجتازوا حصن الأكراد، فأغاروا ونهبوا وقصدوا عرقة فنازلوها وحصروها وقصدوا حلبة وأخذوها وخربوها، وسارت عساكر المسلمين في بلادهم يميناً وشمالاً تغير وتخرب البلاد، وفتحوا العريمة وصافيثا، وعادوا إلى حمص فصاموا بها رمضان.
ثم ساروا إلى بانياس، وقصدوا حصن هونين، وهو للفرنج أيضاً، من أمنع حصونهم ومعاقلهم، فانهزم الفرنج عنه وأحرقوه، فوصل نور الدين من الغد فهدم سوره جميعه، وأراد الدخول إلى بيروت، فتجدد في العسكر خلف أوجب التفرق، فعاد قطب الدين إلى الموصل، وأعطاه نور الدين مدينة الرقة على الفرات، وكانت له، فأخذها في طريقه وعاد إلى الموصل.

.ذكرقصد ابن سنكا البصرة:

في هذه السنة عاد ابن سنكا فقصد البصرة، ونهب بلدها وخربه من الجهة الشرقية، وسار إلى مطارا، فخرج إليه كمشتكين، صاحب البصرة، وواقعه واقتتلوا قتالاً صبر فيه الفريقان ثم انهزم كمشتكين إلى واسط فاجتمع بشرف الدين أبي جعفر بن البلدي الناظر فيها، ومعهما مقطعهما أرغش، واتصلت الأخبار بأن ابن سنكا واصل إلى واسط، فخاف الناس منه خوفاً شديداً، فلم يصل إليها.

.ذكر قصد شملة العراق:

في هذه السنة وصل شملة صاحب خوزستان إلى قلعة الماهكي، من أعمال بغداد، وأرسل إلى الخليفة المستنجد بالله يطلب شيئاً من البلاد، ويشتط بالطلب، فسير الخليفة إليه أكثر عساكره ليمنعوه، وأرسل إليه يوسف الدمشقي يلومه ويحذره عاقبة فعله، فاعتذر بأن إيلدكز والسلطان أرسلان شاه أقطعا الملك الذي عنده، وهو ولد ملكشاه، البصرة وواسط والحلة وعرض التوقيع بذلك، وقال: أنا أقنع بثلث ذلك؛ فعاد الدمشقي بذلك، فأمر الخليفة بلعنه، وأنه من الخوارج، وجمعت العساكر وسيرت إلى أرغش المسترشدي، وكان بالنعمانية هو وشرف الدين أبو جعفر بن البلدي، ناظر واسط، مقابل شملة.
ثم إن شملة أرسل قلج ابن أخيه في طائفة من العسكر لقتال طائفة من الأكراد، فركب أرغش في بعض العسكر الذي عنده وسار إلى قلج فحاربه، فأسر قلج وبعض أصحابه وسيرهم إلى بغداد، وبلغ شملة وطلب الصلح، فلم تقع الإجابة إليه، ثم إن ارغش سقط عن فرسه بعد الوقعة فمات وبقي شملة مقيماً مقابل عسكر الخليفة، فلما علم أنه لا قدرة له عليهم رحل وعاد إلى بلاده، وكانت مدة سفره أربعة أشهر.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة عصى غازي بن حسان المنبجي على نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام، وكان نور الدين قد اقطعه مدينة منبج، فامتنع عليه فيها، فسير إليهم عسكراً فحصروه وأخذوها منه، وأقطعها نور الدين أخاه قطب الدين ينال بن حسان، وكان عادلاً، خيراً، محسناً إلى الرعية، جميل السيرة، فبقي فيها إلى أن أخذها منه صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.
وفيها توفي فخر الدين قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا واكثر ديار بكر، ولما اشتد مرضه أرسل إلى نور الدين محمود، صاحب الشام، يقول له: بيننا صحبة في جهاد الكفار أريد أن ترعى بها ولدي؛ ثم توفي، وملك بعده ولده نور الدين محمد، فقام نور الدين الشامي بنصرته والذب عنه، بحيث أن أخاه قطب الدين مودوداً، صاحب الموصل أراد قصد بلاده، فأرسل إليه أخوه نور الدين يمنعه، ويقول له: إن قصدته او تعرضت إلى بلاده منعتك قهراً؛ فامتنع من قصده.
وفيها توفي أبو المعالي محمد بن الحسين بن حمدون الكاتب ببغداد، وكان على ديوان الزمام، فقبض عليه فمات محبوساً.
وفيها توفي قماج المسترشدي ولد الأمير يزدن، وهو من أكابر الأمراء ببغداد. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وستين وخمسمائة:

.ذكر فراق زين الدين الموصل وتحكم قطب الدين في البلاد:

في هذه السنة فارق زين الدين علي بن بكتكين، النائب عن قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، خدمة صاحبه الموصل، وسار إلى إربل، وكان هو الحاكم بالدولة، وأكثر البلاد بيده، منها إربل، وفيها بيته واولاده وخزائنه، ومنها شهرزور وجميع القلاع التي معها، وجميع بلد الهكارية وقلاعه، ومنها العمادية وغيرها، وبلد الحميديه، وتكريت وسنجار وحران، وقلعة الموصل هو بها، وكان قد أصابه طرش وعمى ايضاً، فلما عزم على مفارقة الموصل إلى بيته بإربل سلم جميع ما كان بيده من البلاد إلى قطب الدين مودود، وبقي معه إربل حسب.
وكان شجاعاً، عادلاً، حسن السيرة، سليم القلب، ميمون النقيبة، لم ينهزم في حرب قط، وكان كريماً كثير العطاء للجند وغيرهم، مدحه الحيص بيص بقصيدة، فلما أراد أن ينشده قال: أنا لا أعرف ما يقول، ولكني أعلم أنه يريد شيئاً؛ فأمر له بخمسمائة دينار وفرس وخلعة وثياب مجموع ذلك ألف دينار، ولم يزل بإربل إلى أن مات بها بهذه السنة.ولما فارق زين الدين قلعة الموصل سلمها قطب الدين إلى فخر الدين عبد المسيح، وحكمه في البلاد، فعمر القلعة، وكانت خراباً لأن زين الدين كان قليل الالتفات إلى العمارة، وسار عبد المسيح سيرة سديدة وسياسة عظيمة، وهو خصي أبيض من مماليك زنكي أتابك عماد الدين.

.ذكر الحرب بين البهلوان وصاحب مراغة:

في هذه السنة أرسل آقسنقر الأحمديلي، صاحب مراغة، إلى بغداد يسأل أن يخطب للملك الذي هو عنده، وهو ولد السلطان محمد شاه، ويبذل أنه لا يطأ أرض العراق، ولا يطلب شيئاً غير ذلك، وبذل مالاً يحمله إذا أجيب إلى ما التمسه، فأجيب بتطييب قلبه.
وبلغ الخبر إيلدكز صاحب البلاد، فساءه ذلك، وجهز عسكراً كثيفاً، وجعل المقدم عليهم ابنه البهلوان، وسيرهم إلى آقسنقر، فوقعت بينهم حرب أجلت عن هزيمة آقسنقر وتحصنه بمراغة.
ونازله البهلوان بها وحصره وضيق عليه. ثم ترددت الرسل بينهم، فاصطلحوا، وعاد البهلوان إلى أبيه بهمذان.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة استوزر الخليفة المستنجد بالله شرف الدين أبا جعفر أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن البلدي، وكان ناظراً بواسط أبان في ولايتها عن كفاية عظيمة، فأحضره الخليفة واستوزره، وكان عضد الدين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء قد تحكم تحكماً عظيماً، فتقدم الخليفة إلى ابن البلدي بكف يده وأيدي أهله وأصحابه، ففعل ذلك ووكل بتاج الدين أخي أستاذ الدار، وطالبه بحساب نهر الملك، لأنه كان يتولاه من أيام المقتفي، وكذلك فعل بغيره، فحصل بذلك أموالاً جمة، وخافه أستاذ الدار على نفسه، فحمل مالاً كثيراً.
وفي هذه السنة توفي عبد الكريم بن محمد بن منصور أبو سعيد بن أبو بكر ابن أبي المظفر السمعاني المروزي، الفقيه الشافعي وكان مكثراً من سماع الحديث سافر في طلبه وسمع منه ما لم يسمعه غيره، ورحل إلى ما وراء النهر وخراسان دفعات، ودخل إلى بلاد البل وأصفهان والعراق والموصل والجزيرة والشام وغير ذلك من البلاد، وله التصانيف المشهورة منها: ذيل تاريخ بغداد وتاريخ مدينة مرو، وكتاب النسب، وغير ذلك، أحسن فيها ما شاء، وقد جمع مشيخته فزادت عدتهم على أربعة آلاف شيخ، وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي فقطعه.
فمن جملة قوله فيه أنه كان يأخذ الشيخ ببغداد ويعبر به إلى فوق نهر عيسى فيقول: حدثني فلان بما وراء النهر، وهذا بارد جداً فإن الرجل سافر إلى ما وراء النهر حقاً، وسمع في عامة بلاده من عامة شيوخه، فأي حاجة به إلى هذا التلبيس البارد؟ وإنما ذنبه عند ابن الجوزي أنه شافعي، وله أسوة بغيره، فإن ابن الجوزي لم يبق على أحد إلا مكسري الحنابلة.
وفيها توفي قاضي القضاة أبو البركات جعفر بن عبد الواحد الثقفي في جمادى الآخرة.
وفيها توفي يوسف الدمشقي مدرس النظامية بخوزستان، وكان قد سار رسولاً إلى شملة.
وفيها توفي الشيخ أبو النجيب الشهرزوري الصوفي الفقيه، وكان من الصالحين المشهورين، ودفن في بغداد. ثم دخلت:

.سنة أربع وستين وخمسمائة:

.ذكر ملك نور الدين قلعة جعبر:

في هذه السنة ملك نور الدين محمود بن زنكي قلعة جعبر، أخذها من صاحبها شهاب الدين مللك بن علي بن مالك العقيلي، وكانت بيده ويد آبائه من قبله من أيام السلطان ملك شاه، وقد تقدم ذكر ذلك، وهي من أمنع القلاع وأحصنها مطلة على الفرات من الجانب الشرقي.
وأما سبب ملكها فإن صاحبها نزل منها يتصيد، فأخذوه بنو كلاب وحملوه إلى نور الدين في رجب سنة ثلاث وستين، فاعتقله وأحسن إليه، ورغبه في المال والإقطاع ليسلم إليه القلعة، فلم يفعل، فعدل إلى الشدة والعنف، وتهدده، فلم يفعل، فسير إليها نور الدين عسكراً مقدمه الأمير فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني، فحصرها مدة، فلم يظفر منها بشيء، فأمدهم بعسكر آخر، وجعل على الجميع الأمير مجد الدين أبا بكر المعروف بابن الداية، وهو رضيع نور الدين، وأكبر أمرائه، فحصرها أيضاً فلم ير له فيها مطمعاً، فسلك مع صاحبها طريق اللين، وأشار عليه أن يأخذ من نور الدين العوض ولا يخاطر في حفظها بنفسه، فقبل قوله وسلمها، فاخذ عوضاً عنها سروج وأعمالها والملاحة التي بين حلب وباب بزاعة، وعشرين ألف دينار معجلة، وهذا إقطاع عظيم جداً، إلا أنه لا حصن فيه.
وهذا آخر أمر بني مالك بالقلعة ولكل أمر أمد ولكل ولاية نهاية. بلغني أنه قيل لصاحبها: أيما أحب إليك وأحسن مقاماً، سروج الشام أم القلعة؟ هذه أكثر مالاً وأما العز ففارقناه بالقلعة.

.ذكر ملك أسد الدين مصر وقتل شاور:

في هذه السنة، في ربيع الأول، سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى ديار مصر، فملكها ومعه العساكر النورية.
وسبب ذلك من مكن الفرنج من البلاد المصرية، وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنة وتسلموا أبوابها، وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم واعيان فرسانهم، وحكموا المسلمين حكماً جائراً، وركبوهم بالأذى العظيم، فلما رأوا ذلك، وأن البلاد ليس فيها من يردهم، أرسلوا إلى ملك الفرنج، بالشام، وهو مري ولم يكن للفرنج مذ ظهر مثله شجاعة ومكراً ودهاء، يستدعونه ليملكها، وأعلموه خلوها من ممانع، وهونوا أمرها عليه، فلم يجبهم إلى ذلك، فاجتمع إليه فرسان الفرنج وذوو الرأي منهم، وأشاروا عليه بقصدها وتملكها، فقال لهم: الرأي عندي أننا لا نقصدها، فإنها طعمة لنا، وأموالها تساق إلينا، نتقوى بها على نور الدين، وإن نحن قصدناها لنتملكها فإن صاحبها وعساكره، وعامة بلاده وفلاحيها، لا يسلمونها إلينا، ويقاتلوننا دونها، ويحملهم الخوف منا إلى تسليمها إلى نور الدين، ولئن أخذها وصار له فيها مثل أسد الدين، فهو هلاك الفرنج وإجلائهم من أرض الشام؛ فلم يقبلوا قوله، وقالوا له: لا مانع فيها ولا حامي، وغلى أن يتجهز عسكر نور الدين، ويسير إليها، نكون نحن قد ملكناها، وفرغنا من أمرها، وحينئذ يتمنى نور الدين منا السلامة.
فسار معهم على كره وشرعوا يتجهزون ويظهرون أنهم يريدون قصد مدينة حمص، فلما سمع نور الدين شرع أيضاً يجمع عساكره، وأمرهم بالقدوم عليه، وجد الفرنج في السير إلى مصر، فقدموها، ونازلوا مدينة بلبيس، وملكوها قهراً مستهل صفر، ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسبوا.
وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج، ووعدوهم النصرة عداوة منهم لشاور، منهم ابن الخياط، وابن فرجلة، فقوي جنان الفرنج، وساروا من بلبيس إلى مصر، فنزلوا على القاهرة عاشر صفر وحصروها، فخاف الناس منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس، فحملهم الخوف منهم على الامتناع، فحفظوا البلد، وقاتلوا دونه وبذلوا جهدهم في حفظه، فلو أن الفرنج أحسنوا السيرة في بلبيس لملكوا مصر والقاهرة، ولكن الله تعالى حسن لهم ما فعلوا ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر، وأمر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن ينهب البلد، فانتقلوا، وبقوا على الطرق، ونهبت المدينة وافتقر أهلها، وذهبت أموالهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم، خوفاً أن يملكها الفرنج، فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوماً.
وأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيث به، ويعرفه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج، وأرسل في الكتب شعور النساء وقال: هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج؛ فشرع في تسيير الجيوش.
وأما الفرنج فإنهم اشتدوا في حصار القاهرة وضيقوا على أهلها، وشاور هو المتولي للأمر والعساكر والقتال، فضاق به الأمر، وضعف عن ردهم فأخلد إلى أعمال الحيلة، فأرسل إلى ملك الفرنج يذكر له مودته ومحبته القديمة له، وان هواه معه لخوفه من نور الدين والعاضد، وإنما المسلمون لا يوافقونه على التسليم إليه، ويشير بالصلح، وأخذ مال لئلا يتسلم نور الدين، فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه ألف ألف دينار مصرية، يعجل البعض، ويمهل البعض فاستقرت القاعدة على ذلك.
ورأى الفرنج أن البلاد قد امتنعت عليهم وربما سلمت إلى نور الدين، فأجابوا كارهين، وقالوا: نأخذ المال فنتقوى به، ونعاود البلاد بقوة لا نبالي معها بنور الدين {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} [آل عمران] فعجل لهم شاور مائة ألف ألف دينار، وسألهم الرحيل عنه ليجمع لهم المال، فرحلوا قريباً، وجعل شاور يجمع لهم المال من أهل القاهرة ومصر، فلم يتحصل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار، وسببه أن أهل مصر كانوا قد احترقت دورهم وما، وما سلم نهب، وهم لا يقدرون على الأقوات فضلاً عن الأقساط.
وأما القاهرة فالأغلب على أهلها الجند وغلمانهم، فلهذا تعذرت عليهم الأموال، وهم في خلال هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث بلاد مصر، وأن يكون أسد الدين مقيماً عندهم في عسكر، وأقطاعهم في الديار المصرية أيضاً خارجاً عن الثلث الذي لهم.
وكان نور الدين لما وصله كتب العاضد بحلب أرسل إلى أسد الدين يستدعيه إليه، فخرج القاصد في طلبه، فلقيه على باب حلب، وقد قدمها من حمص وكان إقطاعه، وكان سبب وصوله أن كتب المصريين وصلته أيضاً في المعنى، فسار أيضاً إلى نور الدين، واجتمع به، وعجب نور الدين من حضوره في الحال، وسره ذلك، وتفاءل به، وأمر بالتجهيز إلى مصر، وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الثياب والدواب والأسلحة وغير ذلك، وحكمه في العسكر والخزائن، واختار من العسكر ألفي فارس، وأخذ المال، وجمع ستة آلاف فارس، وسار هو ونور الدين إلى دمشق، فوصلها سلخ صفر، ورحل إلى رأس الماء، وأعطى نور الدين كل فارس ممن مع أسد الدين عشرين ديناراً معونة غير محسوبة من جامكيته، وأضاف إلى أسد الدين جماعة أخرى من الأمراء منهم: مملوكه عز الدين جورديك، وعز الدين قلج، وشرف الدين بزغش، وعين الدولة الياروقي، وقطب الدين ينال بن حسان المنبجي، وصلاح الدين يوسف بن أيوب، أخي شيركوه، على كره منه، {عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم} [البقرة] أحب نور الدين مسير صلاح الدين، وفيه ذهاب بيته؛ وكره صلاح الدين المسير، وفيه سعادته وملكه، وسيد ذلك عند موت شيركوه، إن شاء الله تعالى.
وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجداً منتصف ربيع الأول، فلما قارب مصر رحل الفرنج عنها عائدين إلى بلادهم بخفي حنين خائبين مما أملوا، وسمع نور الدين بعودهم، فسره ذلك، وأمر بضرب البشائر في البلاد، وبث رسله في الآفاق مبشرين بذلك، فإنه كان فتحاً جديداً لمصر وحفظاً لسائر بلاد الشام وغيرها.
فأما أسد الدين فإنه وصل إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة، ودخل إليها، واجتمع بالعاضد لدين الله، وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالعاضدية، وفرح به أهل مصر، وأجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة، والإقامات الوافرة، ولم يمكن شاور المنع عن ذلك لأنه رأى العساكر كثيرة مع شيركوه وهوى العاضد معهم، فلم يتجاسر على إظهار ما في نفسه، وشرع يماطل أسد الدين في تقرير ما كان بذل لنور الدين من المال، وإقطاع الجند، وإفراد ثلث البلاد لنور الدين، وهو يركب كل يوم إلى أسد الدين ويسير معه ويعده ويمنيه {وما يعدهم الشيطان إلا غروراً} ثم إنه عزم على أن يعمل دعوة يدعو إليها أسد الدين والأمراء الذين معه ويقبض عليهم، ويستخدم من معهم من الجند فيمنع بهم البلاد من الفرنج، فنهاه ابنه الكامل، وقال له: والله لئن عزمت على هذا لأعرفن شيركوه. فقال له أبوه: والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعاً. فقال: صدقت ولئن نقتل ونحن مسلمون والبلاد إسلامية، خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج، فإنه ليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل معه فارساً واحداً ويملكون البلاد؛ فترك ما كان عزم عليه.
ولما رأى العسكر النوري مطل شاور خافوا شره، فاتفق صلاح الدين يوسف بن أيوب وعز الدين جورديك وغيرهما على قتل شاور، فاعلموا أسد الدين فنهاهم عنه، فسكتوا وهم على ذلك العزم من قتله، فاتفق أن شاور قصد عسكر أسد الدين على عادته، فلم يجده في الخيام، وكان قد مضى يزور قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه، فلقيه صلاح الدين يوسف وجورديك في جمع من العسكر، وخدموه، واعلموه بأن شيركوه في زيارة قبر الإمام الشافعي، فقال: نمضي إليه، فساروا جميعاً، فسايره صلاح الدين وجورديك وألقياه عن فرسه إلى الأرض، فهرب أصحابه عنه، فاخذ أسيراً، فلم يمكنهم قتله بغير أسد الدين، فتوكلوا بحفظه، وسيروا فأعلوا أسد الدين الحال، فحضر، ولم يمكنه إلا إتمام ما عملوه، وسمع الخليفة العاضد صاحب مصر الخبر، فأرسل إلى أسد الدين يطلب منه إنفاذ رأس شاور، وتابع الرسل بذلك، فقتل وأرسل رأسه إلى العاضد في السابع عشر من ربيع الآخر.
ودخل أسد الدين القاهرة، فرأى من اجتماع الخلق فخافهم على نفسه، فقال لهم: أمير المؤمنين، يعني العاضد، يأمركم بنهب دار شاور؛ فتفرق الناس عنه إليها فنهبوها، وقصد هو قصر العاضد، فخلع عليه خلع الوزارة، ولقب املك المنصور أمير الجيوش، وسار بالخلع إلى دار الوزارة، وهي التي كان فيها شاور، فلم ير فيها ما يقعد عليه، واستقر في الأمر، وغلب عليه، ولم يبق له مانع ولا منازع، واستعمل على الأعمال من يثق به من أصحابه واقطع البلاد لعساكره.
وأما الكامل بن شاور فإنه لما قتل أبوه دخل القصر هو وأخوته معتصمين به، فكان آخر العهد بهم، فكان شيركوه يتأسف عليه كيف عدم لأنه بلغه ما كان منه مع أبيه في منعه من قتل شيركوه، وكان يقول: وددت أنه بقي لأحسن إليه جزاء الصنيعة.

.ذكر وفاة أسد الدين شيركوه:

لما ثبت قدم أسد الدين، وظن أنه لم يبق له منازع، أتاه أجله {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة} فتوفي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة، وكانت ولايته شهرين وخمسة أيام.
وأما ابتداء أمره واتصاله بنور الدين، فإنه كان هو وأخوه نجم الدين أيوب ابنا الشاذي من بلد دوين، وأصلهما من الأكراد الروادية، وهذا النسل هم أشرف الأكراد، فقدما العراق، وخدما مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد، فرأى من نجم الدين عقلاً ورأياً وافراً وحسن سيرة، وكان أكبر من شيركوه، فجعله مستحفظاً لقلعة تكريت، وهي له، فسار إإليها ومعه أخوه شيركوه، فلما انهزم أتابك الشهيد زنكي بن آقسنقر بالعراق من قراجة الساقي على ما ذكرناه سنة ست وعشرين وخمسمائة، وصل منهزماً إلى تكريت، فخدمه نجم الدين، وأقام له السفن فعبر دجلة هناك، وتبعه أصحابه، فأحسن أيوب صحبتهم وسيرهم.ثم إن شيركوه قتل إنساناً بتكريت لملاحة جرت بينهما، فأخرجهما بهروز من القلعة، فسارا إلى الشهيد زنكي، فأحسن إليهما، وعرف لهما خدمتهما، وأقطعهما إقطاعاً حسناً، فلما ملك قلعة بعلبك جعل أيوب مستحفظاً عليها؛ فلما قتل الشهيد حصر عسكر دمشق بعلبك وهو بها، فضاق عليه المر، وكان سيف الدين غازي بن زنكي مشغولاً عنه بإصلاح البلاد، فاضطر إلى تسليمها إليهم، فسلمها على إقطاع ذكره، فأجيب إلى ذلك، وصار من اكبر الأمراء بدمشق.
واتصل أخوه أسد الدين شيركوه بنور الدين محمود بعد قتل زنكي، وكان يخمه في أيام والدهن فقربه وقدمه، ورأى منه شجاعة يعجز عنها غيره، فزاده حتى صار له حمص والرحبة وغيرهما، وجعله مقدم عسكره، فلما أراد نور الدين ملك دمشق أمره فراسل أخاه أيوب وهو بها، وطاب منه المساعدة على فتحها، فأجاب إلى ما يراد منه على إقطاع ذكره له ولأخيه، وقرى يتملكانها، فأعطاهما ما طلبا، وفتح دمشق على ما ذكرناه، ووفى لهما، وصارا أعظم أمراء دولته. فلما أراد أن يرسل العساكر إلى مصر، لم ير لهذا الأمر العظيم والمقام الخطير غيره، فأرسله، ففعل ما ذكرناه.

.ذكر ملك صلاح الدين مصر:

لما توفي أسد الدين شيركوه كان معه صلاح الدين ابن أخيه أيوب ابن شاذي قد سار معه على كره منه للمسير.
حكى لي عنه بعض أصدقائنا ممن كان قريباً إليه خصيصاً به قال: لما وردت كتب العاضد على نور الدين يستغيث به من الفرنج، ويطلب إرسال العساكر، أحضرني وأعلمني الحال، وقال: تمضي إلى عمك أسد الدين بحمص مع رسولي إليه ليحضر، وتحثه أنت على الإسراع، فما يحتمل الأمر التأخير؛ ففعلت وخرجنا من حلب، فما كنا على ميل من حلب حتى لقيناه قادماً في هذا المعنى، فأمره نور الدين بالمسير، فلما قال له نور الدين ذلك التفت عمي إلي فقال لي: تجهز يا يوسف! فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية ما لا أنساه أبداً. فقال لنور الدين: لا بد من مسيره معي فتأمر به، فأمرني نور الدين، وأنا أستقيل، وانقضى المجلس. وتجهز أسد الدين، ولم يبق غير المسير؛ قال لي نور الدين: لا بد من مسيرك مع عمك؛ فشكوت إليه الضائقة وعدم البرك، فأعطاني ما تجهزت به فكأنما أساق إلى الموت، فسرت معه وملكها، ثم توفي فملكني الله ما لم اكن أطمع في بعضه.
وأما كيفية ولايته، فإن جماعة من الأمراء النورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدم على العساكر، وولاية الوزارة العاضدية بعده، منهم عين الدولة الياروقي، وقطب الدين، وسيف الدين المشطوب الهكاري، وشهاب الدين محمود الحارمي، وهو خال صلاح الدين، وكل واحد من هؤلاء يخطبها، وقد جمع أصحابه ليغال عليها، فأرسل العاضد إلى صلاح الدين فأحضره عنده، وخلع عليه، وولاه الوزارة بعد عمه.
وكان الذي حمله على ذلك أن أصحابه قالوا: ليس في الجماعة أضعف ولا أصغر سناً من يوسف، والرأي أن يولى، فإنه لا يخرج من تحت حكمنا، ثم نضع على العساكر من يستميلهم إلينا، فيصير عندنا من الجنود من نمنع بهم البلاد، ثم نأخذ يوسف أو نخرجه.
فلما خلع عليه لقب الناصر لم يطعه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم، ولا خدموه. وكان الفقيه عيسى الهكاري معه، فسعى مع المشطوب حتى أماله إليه، وقال له: إن هذا الأمرلا يصل إليك مع عين الدولة والحارمي وغيرهما؛ ثم قصد الحارمي وقال: هذا صلاح الدين هو ابن أختك وعزه وملكه لك، وقد استقام له الأمر فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه ولا يصل إليك؛ فمال إليه أيضاً، ثم فعل مثل هذا بالباقين، وكلهم أطاع غير عين الدولة الياروقي فإنه قال: أنا لا أخدم يوسف؛ وعاد إلى نور الدين بالشام ومعه غيره من الأمراء، وثبت قدم صلاح الدين، ومع هذا فهو نائب عن نور الدين.
وكان نور الدين يكاتبه بالأمير الأسفهسلار، ويكتب علامته على رأس الكتاب تعظيماً عن أن يكتب اسمه، وكان لا يفرده بكتاب بل يكتب الأمير الأسفهسلار صلاح الدين وجميع الأمراء بالديار والمصرية يفعلون كذا.
واستمال صلاح الدين قلوب الناس، وبذل الأموال، فمالوا إليه وأحبوه وضعف أمر العاضد، ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه أخوته وأهله، فأرسلهم إليه، وشرع عليهم طاعته والقيام بأمره ومساعدته، وكلهم فعل ذلك، وأخذت إقطاعات الأمراء المصريين فأعطاها أهله والأمراء الذين معه، وزادهم، فازدادوا له حباً وطاعة.
قد اعتبرت التواريخ، فرأيت كثيراً من التواريخ الإسلامية التي يمكن ضبطها، ورأيت كثيرأ ممن يبتدئ الملك تنتقل الدولة عن صلبه إلى بعض أهله وأقاربه، منهم أول الإسلام: معاوية بن أبي سفيان، أول من ملك من أهل بيته، فنقل الملك عن أعقابه إلى بني مروان من بني عمه؛ ثم السامانية أول من استبد منهم نصر بن أحمد، فانتقل الملك عنه إلى أخيه إسماعيل بن أحمد وأعقابه؛ ثم يعقوب الصفار، وهو أول من ملك من أهل بيته، فانتقل الملك إلى أخيه عمرو وأعقابه؛ ثم عماد الدولة بنبويه أول من ملك من أهله انتقل الملك عنه إلى أخويه ركن الدولة وعز الدولة؛ ثم خلص في أعقاب ركن الدولة، ومعز الدولة؛ ثم خلص في أعقاب ركن الدولة؛ ثم الدولة السلجوقية أول من ملك منهم طغرل بك انتقل الملك إلى أولاد أخيه، داود؛ ثم شيركوه هذا كما ذكرناه انتقل الملك إلى أعقاب أخيه أيوب؛ ثم إن صلاح الدين لما أنشأ الدولة وعظمها، وصار كأنه أول لها، نقل الملك إلى أعقاب أخيه العادل ولم يبق بيد أعقابه غير حلب.
وهذه اعظم الدول الإسلامية، ولولا خوف التطويل لذكرنا أكثر من هذا، والذي أظنه السبب في ذلك أن الذي يكون أول دولة يكثر ويأخذ الملك وقلوب من كان فيه متعلقة به فلهذا يحرمه الله أعقابه ومن يفعل ذلك من أجلهم عقوبة له.